عين على فلسطين

قانون الأوراق المختومة في روتين الدوائر الحكومية

الحصول على معاملة من أروقة المستشفى
الدليل الإرشادي للحصول على معاملة مختومة في أروقة المستشفى العام

وصل مبنى وزارة الداخلية وسط المدينة مبكراً..
وقف أمام شباك رقم 1 الخاص باستلام شهادات الميلاد والهوية والملخصات
ابتسم لرجل مسرع يريد أن يأخذ مكانه في الطابور، وتراجع للوراء قليلاً
وعندما حان دوره قدم أوراقه بابتسامة عريضة للموظف..
قلب الأوراق كمن يخبز فطيراً..
ثم ما لبث أن قابله بابتسامة أعرض معيداً الأوراق وهو يشير لمكان أبيض يحتل مساحة كبيرة: “ناقص ختم المستشفى هنا يا أستاز.. وبعدين وين الورقة الحمرا؟”

“هادا بس اللي أعطونا إياه بالمستشفى وحكوا إنه كل شي جاهز لتسلميها عندكم”

“صحيح بس باقي ختم المستشفى هنا.. أو تجيب الورقة الحمرا”

“طيب معلش لو سمحت خود نظرة تانية شوف شو ناقص بلاش أرجع مشوار تاني”

“لا .. كل شي تمام.. بس ختم المستشفى ويعطيك العافية”

خرج والأفكار المزدحمة في رأسه تفوق السيارات حوله .. مبنى الوزارة شرق المدينة والمستشفى في أقصى غربها، لديه موعد هام بعد ثلاث ساعات، صحيح أنه وقت طويل لكن من يدري ربما جر التوقيع المذكور آنفاً آلافاً من الإجراءات الروتينية المعقدة، لماذا لا تتواجد كافة مباني المصالح الحكومية في مكان واحد مثلما الحال في ماليزيا؟

حزم رأيه وعزم أمره وأوقف أقرب وسيلة مواصلات وانطلق غرباً..

طابور أمام مكتب الاستقبال، لا مانع من الانتظار .. جاء الدور،وسأل الموظف عن مكان للختم المفقود.

“روح على مكتب تسجيل قسم الولادة.. واختمها من هناك”

كان مكتب الاستقبال داخل المستشفى بينما شباك قسم الولادة يطل على الشارع، وشمس الساعة الغاضبة، الساعة التاسعة بدأت تلوح في المكان، ولا مناص من الوقوف في الطابور، وعندما حان وقت السؤال جاء الجواب:

“هادا من الأرشيف مش من هنا”

“عفواً.. وين الأرشيف؟”

“قريب من هنا.. خوش يمين وبعدها فوت من الباب التاني”

“تسلم.. بس معلش أسأل ممكن تعطيني فكرة بعد الأرشيف وين أروح؟”

“ولا حاجة بس إمضا من أي دكتور ولادة من هنا”

“طيب ما بينفع يمضي الدكتور قبل ختم الأرشيف مشان بدل ما أروح مشوار وأرجع تاني؟”

” لا طبعاً.. لازم الأول ختم الأرشيف”

ترك المظلة الصغيرة أمام شباك الولادة وانطلق يحث الخطى صوب الأرشيف

“وين الورقة الحمرا؟”

“والله لو أعرف لحكيت لك.. هادي كل الأوراق اللي أخدناها”

“ورقة الخروج.. الورقة الحمرا ضروري تكون موجودة مع الأوراق..”

“…..”

قلب الأوراق من جديد، ثم أعادها له بنظرة يائسة

“هادي لازم تختمها الأول من الحسابات”

“تكرم.. بس عفواً وين الحسابات؟”

“أول مبنى عند مدخل المستشفى”

عاد أدراجه للمباني في المدخل بحثاً عن قسم الحسابات، حتى دله عليه أحد المارة

“لو سمحت محتاجين توقيعكم هنا”

كعادة العالم والناس في هذا المكان قلّب الأوراق وهيأ ذهنه للسؤال عن شيء، لابد أن يسأل، لا يمكن أن يجد من يجيب سؤاله إجابة شافية، لابد من سؤال يقلب عليه المواجع، وقد كان السؤال الجديد أصعب من مجموعة أسئلة كيمياء الثانوية العامة:

“معك تأمين؟”

بالفعل سؤال من العيار الثقيل وفي موضع حساس كذلك، من ذا الذي يجرؤ على الخروج من بيته بلا تأمين؟ كيف ينساه وهو بصدد ختم هذه الأوراق الهامة؟ لن يجد المبرر المقبول فلاذ بالصمت وقليل من كلمات التمتمة:

“لشو التأمين؟.. احنا عملنا التزام دفع .. وبعدين قدمنا التأمين وفكينا الالتزام.. وتمت المعاملة”

“طيب متى كان موعد الخروج؟”

“15 مايو.. يوم العودة مش الخروج”

يبدو لم ترق له المفارقة فمط شفتيه وأخذ يقلب مجلدًا ضخمًا يطلق عليه مجازًا دفتر يوميات، بحث عن الاسم وسجله على ورقة خارجية مع رقم من 5 خانات:

“امضيها من المكتب اللي قدامنا”

توجه للمكتب المقابل وهو يستغرب كثرة التوقيعات والإجراءات المطلوبة، وزاد استغرابه عندما وجد أخيراً من لا يسأل، ولا يجيب، إنه الموظف في المكتب المقابل فقد أخذ منه الورقة وختمها ثم أمهرها توقيعه بشكل آلي.

عاد لموظف الحسابات يستفسر عن الخطوة التالية:

“خلاص.. روح ع الأرشيف وهم يمضوها”

انطلق مسرعاً للأرشيف ومشاعر النصر تخالج صدره، أخيراً تغلب على الروتين وهزم فلوله في عقر داره، دخل الأرشيف مرة أخرى وشبه ابتسامة تلوح على ملامحه، ما لبثت أن انزوت عندما أخبره الموظف:

“هادي من الأرشيف الخارجي بيختموها مش من عندنا”

“طيب وين هادا الأرشيف الخارجي؟”

“برا عند باب الدخول.. معروف بالدرج الحديد..”

كظم ما تبقى من غيظه وقفل راجعاً حيث السلم الحديدي أو الأرشيف الخارجي، وفي نيته أن يعلن عن براكين ثورته لو تجرأ الموظف هناك وأرسله لمكان آخر..

سرعان ما ندم على نيته عندما بانت له ملامح الموظف الهادئة، وهو يقرأ القرآن في خشوع، ويتحدث بهدوء، وينظر بهدوء، ويفتح سجله بهدوء، ويقرأ الاسم المدون على الورقة بهدوء ومرة وأخرى بتريث ويسجله بروية ويعيد عليه الكرة.

حاول أن يعجل من عملية تسجيل البيانات بتلقينه الأرقام الواردة في المعاملة، فإذا به يخطئ ويملي على الموظف رقماً إضافياً تثور معه ثائرته:

“يا أخي لو سمحت.. ما تلخبطني.. انت ع شو مستعجل؟  العجلة من الشيطان.. “

لاذ بالصمت مجدداً على أمل الانتهاء من هذه المعاملة السرمدية

“لازم تجيب لي صورة من هادي الورقة الأولى.. روح صور لي ياها وتعال تاني”

“تصوير؟ وين ألاقي مكتب تصوير هنا؟”

“برا عند البوابة في مكتب خدمات لأخت صوّر عندها الورقة”

نزل درجات السلم الحديدي مسرعاً، وأطلق العنان لعينيه لمسح المكان بحثاً عن مكتب خدمات الأخت، حتى وجد ثلة من البشر يجلسون على مقاعد صغيرة في غرفة جانبية، على ملامحهم أمارات الحزن والسهاد وكأنهم يأخذون واجب العزاء في عزيز، لم يعرف أين يبدأ الدور ولا أين ينتهي الطابور ليأخذ مكانه، حتى نكزه أحدهم من الخلف فلما استدار رأى ملامح أقل ما يقال عنها “مبتهجة”:

“عماد؟.. كيف حالك؟ شو أخبارك يا راجل؟ والله زماان عنك وعن قعداتك.. بالحضن”

وقرن قوله بالفعل.. ثم:

“شو بتعمل هنا؟ سلامتك خير إن شاء الله”

“الحمد لله بخير.. الله يسلمك من كل سوء بس شوية إجراءات بس ما كنت ماخد بالي إن إنها بتاخد شوية وقت”

“إيييه.. عادي ما تاخد ببالك.. ومرات بتقعد يومين وإنت ما خلصت.. أشوف إنت شو باقي عليك؟”

“بس باقي أصور هادي الورقة.. ومش عارف وين الدور”

“لا ما في دور.. انت اعطيه للأخت هناك وهي تصورها”

وأدار بوجهه للمرأة الجالسة خلف مكتب تكدست فوقه أدوات التصوير وإكسسوارات الكمبيوتر والقرطاسية، سلمها الورقة للتصوير فأجابت:

“نص شيكل وما معي فكة”

أعطاها (شيكل) وعقب:

“ولا أنا.. خلاص اعملي منها نسختين بشيكل..”

ثم نظر لذي الملامح المبتهجة قائلاً:

“تسلم والله ما قصرت.. بس على فكرة أنا مش عماد”

وعاد للسلم الحديدي حيث الموظف الهادي محاكاة للمحيط الهادي، وسلمه الأصل والنسخة:

“وليش عامل نسخة تانية؟”

“للذكرى”

وبعد هدوء وروية ومعالجة دقيقة لكل حرف ورد في الوثيقة منّ على الصفحات بتوقيعه وأكرم المستندات بختمه الأزرق.

رجع من جديد لقسم الولادة بحثاً عن طبيب، أي طبيب يمكن أن يؤدي الخدمة ويختم الأوراق وتنتهي قصته، أشار أحدهم لغرفة الأطباء فدخلها ليجد نفسه بين عشرات من النساء اللواتي يتأوهن ويألمن ويبحثن عن طبيب يجيب استغاثاتهن، فانسل من بينهن حتى وصل مكتب الطبيب الوحيد في الغرفة، مستنجداً به هو الآخر أن يكرمه بختم على صدر هذه الورقة الحزينة، وقد كان.

خرج من المستشفى وهو يعيد حسابات الوقت في ذهنه، هل يتصل بأصحاب الموعد يخبرهم عن احتمال تأخره أم مازال يمتلك مزيداً من الوقت؟
أغرى السائق بدفع أجرة مضاعفة شرط أن يوصله لمبنى وزارة الداخلية..

***

وقف أمام شباك رقم 1 الخاص باستلام شهادات الميلاد والهوية والملخصات

وعندما حان دوره قدم أوراقه بابتسامة عريضة للموظف

قلب الأوراق كمن يخبز فطيراً

ثم ما لبث أن قابله بابتسامة أعرض معيداً الأوراق:

“ضروري تجيب طابع غرامة تأخير “

“تأخير؟ تاخير شو؟”

“هادي المعاملة من 15 مايو واحنا 15 يونيو يعني فات عليها شهر، ممكن احنا نتجاوز لو أسبوع أو 15 يوم بس شهر ما في مجال”

“بس يا سيدي إحنا استلمنا الورق من المستشفى متأخر أساساً مثل ما هو مكتوب عندك في تاريخ الخروج بعد 20 يوم”

“أنا عارف ومقدر.. وأنا ما عندي مشكلة.. بس احنا شغالين على القانون الفلسطيني القديم، وهادا القانون ما في بند لحالة مثل حالتك”

“ياسيدي تكرم إنت والقانون.. من وين أجيب طابع غرامة التأخير هادا؟”

“جنبنا هنا من البريد.. احكي له بدي طابع غرامة بخمس دنانير “

حمد الله أن اليوم منتصف الشهر، وإلا لانتظر طابور الموظفين الذين يتقاضون رواتبهم من البريد، بحث عن شباك الطوابع فلما وجده خالياً سأل عن موظفه، أجاب أحدهم:

“رح يصلي”

“يصلي شو؟ باقي ساعة للظهر!”

“لا ما هو بيروح يتوضا الأول وبعدين يصلي.. تقدر تاخد طوابع من الشباك التاني.. كلها نفس الشي”

“ع رأيك .. مش مهم المصاري المهم الفلوس.. وكلها بتجيب العملة وتزيد رأس المال”

وقف ينتظر دوره في الطابور ليشتري طوابع غرامة تأخير بخمسة دنانير، وهو يعبث بالأرقام في هاتفه النقال بحثاً عن رقم موعده الذي اقترب كثيراً، وعندما اتصل به:

“عفواً.. مش سامعك كويس.. لحظة أطلع برا.. اها.. كويس هيك.. سامع.. نعم.. خلاص.. ماشي ولا يهمك.. رح أكون موجود في الموعد بإذن الله.. أنا خلصت تقريباً.. بس باقي دقيقتين وأطلع بعدها سيارة وأكون عندك.. في غضون نص ساعة بإذن الله.. معلش أعتذر عن التأخير”

لم ينتبه إلى أنه خرج من المكان ومن الطابور كذلك، وعندما عاد لم يعرف أحداً من الموجودين، سرعان ما تغيرت الوجوه واختفى من كانوا في الطابور، وحل مكانهم غيرهم، فلم يحر سؤالاً، ووقف في آخر الطابور ينتظر دوره بصبر..

***

وقف أمام شباك رقم 1 الخاص باستلام شهادات الميلاد والهوية والملخصات

لم يبتسم لرجل مسرع يريد أن يأخذ مكانه في الطابور، ولم يتراجع للوراء قيد أنملة

وعندما حان دوره قدم أوراقه بلا أي مشاعر للموظف

قلب الأوراق كمن يخبز فطيراً

ثم ما لبث أن قابله بابتسامة عريضة و..

“لا .. أبوس إيدك ما في مجال ترجعني تالت مرة لأي مكان.. خلّص بنزين مخي.. دخيلك”

“لا بس كنت بدي أحكي لك إنه الورقة الحمرا المطلوبة كانت هنا جوا المظروف مع الأوراق.. يللا معلش.. كتير الموظفين في المستشفى بينسوها مع العجلة والسرعة.. خلص المعاملة هيك انتهت.. بعد أسبوع بيصلك الرد”

“………”

خالد صافي

خالد صافي مختص في التسويق الرقمي ومدرب خبير في الإعلام الاجتماعي، حاصل على لقب سفير الشباب الفخري من وزير الشباب والرياضة التركية، حاز على جائزة أفضل مدونة عربية لعام 2012 من دويتشه فيله الألمانية.

مقالات ذات صلة

‫4 تعليقات

  1. يا حبيبي يا خالد .. (انشكح) انت وأنا .. في غزة
    بعتقد انو لحظة ما يتغير هالحال راح يبدأ عد تنازلي سريع لتحقيق كتير من الأهداف
    ومن الان حتى هذه اللحظة .. تصبح على روتين !!

  2. السلام عليكم -الله يكون في عون المواطن ..مئة دوخة ودوخة حتى يتوصل بأوراقه رغم أن في عالم آخر الأوراق وكل ما يطلبه المواطن لا يحتاج إلا لدقائق ويتم الأمر ..الله المستعان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Protected by WP Anti Spam
زر الذهاب إلى الأعلى