عبارات وعبرات

يوميات مواطن قديم: إضراب 6 و 9 من كل شهر

ينصح عدم القراءة لمن هم دون 28+

قبل البدء فإن مواليد السبعينات والثمانينات وما سبقهما من القرن الماضي هم من سيجد معنى لما يلي من حديث، وسيستمتع به على اعتبار أنه ذكريات من زمن جميل، أما من ولدوا بعد ذلك ربما يندمون لأنهم لم يعيشوا في ذلك العصر..

حتى جوجل لن يخبرك شيئاً عن إضراب أيام 6 و 9 من كل شهر، طلاب المدارس في تلك الفترة يحفظونهما وينتظرونهما بشغف، ويبتهلون مع بداية كل شهر ألا يوافق أحدهما أو كلاهما يوم الجمعة، لن تجد بين صفحات محركات البحث عبر الإنترنت شيئاً عن الشوارع التي كانت تغلقها قوات الاحتلال بالكتل الإسمنتية بزعم أنها مصدر خطر على “جيش الدفاع”، لن تعرف سبب استخدام الصغير والكبير كلمة “الجيش“، واحدة من أهم المحاور التي حرص الاحتلال على ترسيخها في ثقافة المجتمع، عبر الإذاعة الوحيدة التي تستهل نشرة أخبارها الساعة 7:30 بـهنا صوت إسرائيل من أورشليم القدس، وشاشة قناة إسرائيل الأولى المعتمدة لدى شريحة عريضة من الشباب.

من لم يكن ينتظر الفلم العربي على القناة الأولى بعد عصر الجمعة؟ من لم يتابع حلقات المسلسل الكوميدي “مطعم أبو رامي”؟ من لم يشترك في “اللوتو” أملاً في الفوز بملايين الشواكل في ضربة حظ؟ من لم يتابع مباريات الدرجة القطرية والممتازة ويلعب “واحد إكس اثنين“؟

وللتاريخ فقد كانت تنحصر وسائل الإعلام الفلسطينية في المكتوبة منها، لا إذاعات محلية ولا محطات تلفزيونية، فقط بعض الصحف والمجلات، أشهرها صحيفة النهار والفجر والقدس التي كانت تخصص كل يوم سبت زاوية بعنوان ركن الطفل يحررها خليل سموم، أما مجلة البيادر السياسي الشهرية فكانت تمثل الصوت الحر الذي حمل على عاتقه نشر صور شهداء الانتفاضة على الصفحة الأخيرة، وبالألوان في عهد اكتسى بالأسود والأبيض.

جريدة الشارع:

تخيل صعوبة المهمة الملقاة على المقاومة، لا إنترنت، ولا فضائيات، ولا وسائل إعلام جديد ولا تقليدي، المقاومة الفلسطينية التي كانت تتشح بالسواد وتلبس القناع الذي يغطي الوجه عدا العينين، استخدمت الجدران جريدة الشارع الفلسطيني اليومية، كانت من خلالها تسن قوانين الجهاد، تُعلن أيام الحداد وتعاقب من يخالف، تحدد أيام الإضراب وتراقب السيارات والمحال التجارية، عناصرها يتحركون بسرعة البرق، وقبل أن يرتد إليك طرفك تفاجأ بهم ينتشرون كالجراد وسط المدينة، وعند أضخم جدار يبدأ أحدهم بالكتابة، تتوقف الحركة وتخمد أصوات السيارات وتتناثر نداءات الباعة وحتى الخطوات يزهد الناس فيها، صمت يخيم على المكان تكاد تسمع صوت “بخاخة” الملثم وهو يخط بياناً أو يعلن مناسبة أو عملية فدائية، يصفها الإعلام الإسرائيلي عملية “انتحارية” قام بها “مخربون”.

حروف وأسماء:

كانت أشهر الأسماء التي توقّع على الجدران في تلك الفترة مجموعات الفهد الأسود، وكتائب الشهيد أحمد أبو الريش، والجبهة الشعبية التي كانت توقع بحرفي (ج) و (ش) وفي نهايتهما سهم باتجاه خارطة فلسطين، وجناحها العسكري باسم النسر الأحمر، أما الحروف (ق) (و) (م) فكانت ترمز للقيادة الوطنية الموحدة التابعة لمنظمة التحرير، ثم اختفت “الوطنية” لأسباب لوجستية لتبقى (ق) (م) فقط لتعني قيادة موحدة، و(قسم) القوة الإسلامية المجاهدة التابعة للجهاد الإسلامي في فلسطين، بينما كانت توقع حركة المقاومة الإسلامية، بدون “حماس” في بادئ الأمر، ذلك قبل كتائب الشهيد عز الدين القسام بردح من الزمن، وللأمانة كان يُعرف أفراد حركة المقاومة الإسلامية بجمال خطهم وإتقانهم لفنونه على الجدران، رغم قلة كتاباتهم، أما العبارة الأشهر في تلك الفترة: العهد هو العهد والقسم هو القسم.

لوحة المقاومة:

المناشير كانت توزع في المساجد والأسواق وأماكن التجمعات، يتناقلها الناس باحترام وتبجيل، ويلتزمون قراراتها في وجل ورهبة بغض النظر عن الجهة الناشرة، يكفي أنها من صاحبة الكلمة الأولى واليد الطولى والمكانة الأسمى، يكفي أنها من المقاومة، أعلى سلطة في البلاد، وأصحابها ذوو أشرف مكانة بين العباد، لا نسمع خلافاتهم ولا نعرف شيئاً عن تراشق اتهامات بينهم، لم يقحموا العامة في سياستهم، ولم يصدّروا للناس أزماتهم، لا خيانة ولا مفاوضات مع المحتل، لا تنازل ولا تفريط في المقدسات، غايتهم واحدة، وهدفهم محدد، وطريقهم واضح، وإن اختلف لونهم فعلَمهم واحد وعدوهم واحد، فالمشهد لا يحتمل إلا صورة واحدة، رسمها الفنان الفلسطيني فتحي غبن، فيها المقاوم أقصى اليمين يتماهى مع إخوانه المقاومين ومن خلفهم الشعب كل الشعب مؤازرين، والعدو يحتل شطرها الباقي بأسلحته وجيوشه وعتاده المتين..
صورة ترشد التائهين
وتبصر السائلين
بالسبيل لتحرير القدس
وحل قضية فلسطين..

 

خالد صافي

خالد صافي مختص في التسويق الرقمي ومدرب خبير في الإعلام الاجتماعي، حاصل على لقب سفير الشباب الفخري من وزير الشباب والرياضة التركية، حاز على جائزة أفضل مدونة عربية لعام 2012 من دويتشه فيله الألمانية.

مقالات ذات صلة

‫9 تعليقات

  1. رغم اني مش من مواليد السبعينيات إلا اني باتذكر هذه الاشياء .. وباتذكر قديش كنا نتابع مطعم أبو رامي وفيلم الجمعة .. وخطبة الشعراوي ..

    كمان الملثمين والاضرابات والإقامات الجبرية والجيب مش مارق فول وجيب الصرصور .. ياااه .. كان عمر والله

    خالد:
    تمت إضافة الثمانينات بناء على طلب المغردين
    المهم أن تصل الرسالة من بين ثنايا السطور

  2. بارك الله فيك يا خالد ذكرتني بالذي مضى والله كانت ايام حلوة يا ريت ترجع بحسناتها والحاجات الطيبة اللي فيها, بساطة الناس وطيبتهم وتكاتفهم وخصوصا ايام الطوق الطحين من فوق السواطيح كنا نعمل social networks بس حقيقي مش افتراضي ولمن كنا نهرب الشباب اللي يلحقوهم الجيش من الباب للحيطة للشباك للباب بيكون الشاب عبر ثلاث بيوت وهو مش داري وكانش فرق حماس ولا فتح ولا الجهاد ولا الجبهات لانو العدو كان واحد ورح يضل واحد هو المحتل.

    خالد:
    مما قرأت بين عيون كل من جابوا هذه الكلمات لاحظت شغفاً جميلاً بتلك الأيام والذكريات
    من يدري ربما أجعلها على شكل حلقات مسلسلة أتحدث في كل مرة عن حدث يوافق قضية أو قصة في عصرنا

  3. مواضيعك رائعة من عمق الواقع والمجتمع , وشعورك بكل ما هو حولك يعكس عمق نظرتك , أنت تبصر بعيون لا يمتلكها الا القليل من الناس , وتكتب بقلم ينساب من الابداع

    خالد:
    بوركت سيدي الكلمات على ما انساب من بين أصابعك من حروف وكلمات أدخلت البهجة لنفس قارئها
    وإن كان ماتقول حقاً فذلك لأن الواقع حولنا يزخر بهذا وأكثر واللبيب من بيننا من يرى الجمال بين ثناياه ويجعل الآخرين يرونه في عينيه

  4. ريتها ترجع هالأيام .. صحيح كانت غزة بجميع احيائها محتلة والفصائل جميعها موجودة ولكن الشعب لم يكن منقسم بين فتح وحماس .. لم نكن نشعر بأن هناك فصائل في الشعب الفلسطيني وإنما مقاومة موحدة ..جميعنا كان يحب فتح وجميعنا كان يحب حماس .. لم يكن سباق التنظيمات إلا على مقاومة المحتل لا على المناصب والملايين
    كنا نشعر أيامها بأننا فعلأ أصحاب حق ومدافعين عن القضية . والآن!!

    خالد:
    وصلت للمقصد المطلوب من هذه الذكريات
    ومن المؤكد سنسعد بملاحظاتك القيمة في اليوميات الأخرى التي ستنشر لاحقاً تباعاً بإذن الله حسب الأحداث الجارية

  5. بارك الله فيك أخ خالد مواضيعك ذات اهمية
    يا ليتني عشت تلك الأيام لأري ذلك بأم عيني ولكن كفى أبائنا حديثا فقد متعونا بروعة بتلك الأيام
    مع انها كانت أيام صعبة على القضية الفلسطينة

  6. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    اخي العزيز اضحك الله سنك ااااااااخ ذكرتني بأيام الطفولة التي ربتنا على حب الوطن والمقاومة، وفي ذاكرتني بعض المشاهد لشباب الحي الملثمين المقاومين ونظرتنا لهم بانهم ابطال هذا الوطن، ادعو ربي القدير على عودة روح الجهاد والمقاومة في نفوس شبابنا وشاباتنا ايضا واسأله تعالى وهو القادر على كل شي بأن يجعل النصر قريب.
    الف شكر لك موقع رائع واسلوب مشوق جدا وشدني من اول كلمة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Protected by WP Anti Spam
شاهد أيضًا
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى